الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقد غونت وقال: وقد يستدل من هذا على جواز الاجتهاد واستعمال غلبة الظن في الأحكام إذ لا يعلم أنها بين الفارض والبكر إلا بطريق الاجتهاد. وإنما جاز دخول {بين} على لفظة {ذلك} مع أنه لا يدخل إلا على متعدد، لأنها في معنى شيئين حيث وقع مشارًا به إلى ما ذكر من الفارض والبكر. وإنما أشير بذلك إلى مؤنثين وهو للإشارة إلى واحد مذكر على تأويل ما ذكر وما تقدم للاختصار في الكلام {ما تؤمرون} مثل: أمرتك الخير فافعل ما أمرت به. بمعنى ما تؤمرون به، أو أمركم بمعنى مأموركم تسمية المفعول بالمصدر كضرب الأمير، ولما بين لهم كمال حالها في السن شرعوا في تعرف حال اللون. والفقوع أشد ما يكون من الصفرة. يقال في التوكيد أصفر فاقع مثل أسود حالك، وأحمر قانئ، وارتفع اللون على أنه فاعل سببي لفاقع. والفرق بين قولك صفراء فاقعة و{صفراء فاقع لونها} أن في الثاني تأكيدًا ليس في الأول، لأن اللون اسم للهيئة وهي الصفرة فكأنه قيل: شديد الصفرة صفرتها مثل جد جده، وجنونه مجنون. وعن وهب: إذا نظرت إليها خيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها. والسرور حالة نفسانية تعرض عند اعتقاد أو علم أو ظن بحصول شيء لذيذ أو نافع. وعن علي عليه السلام: من لبس نعلًا صفراء قل همه لقوله: {سر الناظرين} وعن الحسن البصري: صفراء فاقع لونها سوداء شديدة السواد، ولعله مستعار من صفة الإبل لأن سوادها يعلوه صفرة وبه فسر قوله تعالى: {جمالات صفر} [المرسلات: 33] {إن البقر تشابه علينا} لأن البقر الموصوف بالتعوين والصفرة كثير {وإنا إن شاء الله لمهتدون} عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «والذي نفس محمد بيده لو لم يقولوا إن شاء الله لحيل بينهم وبينها أبدًا» وفيه دليل على أن الاستثناء مندوب في كل عمل صالح يراد تحصيله، ففيه استعانة بالله وتفويض للأمر إليه، والاعتراف بقدرته ونفاذ مشيئته الأزلية وإرادته السرمدية، ما شاء الله كان وما لم يشاء لم يكن. والمعنى إنا بمشيئة الله نهتدي للبقرة المأمور بذبحها عند تحصيلنا أوصافها التي بها تمتاز عما عداها، أو إنا إن شاء الله على هدى في استقصاء السؤال أي نرجو أنا لسنا على ضلالة فيما نفعله من هذا البحث، أو إنا إن شاء الله تعريفنا إياها بالزيادة لنا في البيان نهتدي لها، أو إنا إن شاء الله نهتدي للقاتل {لا ذلول} صفة لبقرة مثل لا فارض أي بقرة غير ذلول لم تذلل للكراب وإثارة الأرض، ولا هي من النواضح التي يسنى عليها لسقي الحرث.{لا} الأولى للنفي والثانية مزيدة للتوكيد، لأن المعنى لا ذلول تثير وتسقي، على أن الفعلين صفتان لذلول كأنه قيل: لا ذلول مثيرة وساقية. والذل بالكسر اللين ضد الصعوبة، ودابة ذلول بينة الذل فعول بمعنى فاعل، ولهذا استوى فيه المذكر والمؤنث. تقول: رجل صبور وامرأة صبور {مسلمة} سلمها الله تعالى من العيوب مطلقًا، أو معفاة من العلم وحشية مرسلة عن الحبس، أو مخلسة اللون لم يشب صفرتها شيء من الألوان. وعلى هذا يكون {لا شية فيها} كالبيان. والشية كل لون يخالف معظم لون الفرس وغيره أي لا لون فيها يخالف سائر لونها فهي صفراء كلها حتى قرنها وظلفها، وهي في الأصل مصدر وشاة إذا خلط بلونه لونًا آخر، أصلها وشية حذف فاؤها كما هو عدة وزنة {الآن} اسم للوقت الذي أنت فيه وهو ظرف غير متمكن وقع معرفة، وليس الألف واللام فيه للتعريف لأنه ليس له ما يشركه وهو يائي {جئت بالحق} أي بحقيقة وصف البقرة أو ما بقي إشكال في أمرها فحصلوا البقرة الجامعة لهذه الأوصاف {فذبحوها} والذبح هو قطع أعلى العنق وهو المستحب في الغنم والبقر. والنحر هو قطع اللبة أسفل العنق وهو المستحب في الإبل. والمرعي في الحالتين قطع الحلقوم والمرئ لكن عنق الإبل طويل، فإذا قطع أعلاه تباطأ الزهوق. ولا يكره الذبح في الإبل والنحر في البقر والغنم وإن كان خلاف المستحب {وما كادوا يفعلون} استبطاء لهم، وأنهم لكثرة استكشافهم ما كاد ينقطع خيط أشباههم. وقيل: وما كادوا يذبحونها لغلاء ثمنها. وقيل: لخوف الفضيحة في ظهور القاتل. وقد يستدل بهذا على أن الأمر للوجوب بل للفور وإلا لما ترتب هذا الذم على تثاقلهم {وإذ قتلتم نفسًا} خوطبت الجماعة لوجود القتل فيهم {فادارأتم فيها} فاختلفتم واختصمتم في شأنها لأن المتخاصمين يدرأ بعضهم بعضًا أي يدفعه ويزحمه، أو ينفي كل واحد منكم القتل عن نفسه ويضيفه إلى غيره أو يدفع بعضكم بعضًا عن البراءة ويتهمه. وأصله تدارأتم أدغمت التاء في الدال فاحتيج إلى همزة الوصل، ويحتمل أن يرجع الضمير في {فيها} إلى القتلة المعلومة من قتلتم {والله مخرج} مظهر لا محالة ما كتمتم من أمر القتيل. وقد حكي ما كان مستقبلًا في وقت التدارؤ كما حكي الحاضر في قوله: {وكلبهم باسط ذراعيه} [الكهف: 18] فلهذا صح عمل اسم الفاعل. وهذه الجملة معترضة، وفيها دليل على جواز عموم النص الوارد على السبب الخاص، لأن هذا يتناول كل المكتومات. وفيها دليل على أن الله لا يحب الفساد، وأنه سيجعل إلى زواله سبيلًا، وأن ما يسّره العبد من خير أو شر ودام ذلك منه فالله سيظهره، ويعضده قوله صلى الله عليه وسلم: «إن عبدًا لو أطاع الله من وراء سبعين حجابًا لأظهر الله ذلك على ألسنة الناس» وكذلك المعصية والضمير في {اضربوه} عائد إلى النفس، والتذكير على تأويل الشخص أو الإنسان، ويحتمل أن يعود إلى القتيل بدلالة {قتلتم} أو {ما كنتم تكتمون} واختلف في البعض من البقرة فقيل لسانها، وقيل: فخذها اليمنى، وقيل: عجبها، وقيل: العظم الذي يلي الغضروف وهو أصل الأذن، وقيل: الأذن، وقيل: البضعة من بين الكتفين، والظاهر أنهم كانوا مخيرين بين أيّ بعض أرادوا، وههنا محذوف بدلالة الفاء الفصيحة والمعنى فضربوه فحيي فقلنا كذلك يحيي الله الموتى.روي أنهم لما ضربوه قام بإذن الله وأوداجه تشخب دمًا وقال: قتلني فلان وفلان- وهما ابنا عمه- ثم سقط ميتًا فأخذا وقتلا ولم يورّث قاتل بعد ذلك، ويؤيده قوله نبينا صلى الله عليه وسلم: «ليس للقاتل من الميراث شيء» والسر فيه أنه استعجل الميراث فناسب أن يعارض بنقيض مقصوده وهو قول الشافعي. ولم يفرق بين أن يكون القتل مستحقًا كالعادل إذا قتل الباغي، أو غير مستحق عمدًا كان أو خطأ. وعند أبي حنيفة لا يرث في العمد والخطأ إلا أن العادل إذا قتل الباغي فإنه يرثه. وقال مالك: لا يرثه من ديته ويرثه من سائر أمواله. ومحل {كذلك} نصب على المصدر أي يحيي الله الموتى مثل ذلك الإحياء. وهذا الكلام إما مع الذين حضروا حياة القتيل لأنهم وإن كانوا مؤمنين بذلك إلا أنهم لم يؤمنوا بذلك من طريق العيان والمشاهدة، وشتان بين عين اليقين وعلم اليقين. وإما أن يكون مع منكري البعث في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعلى هذا لا يحتاج إلى تقدير فقلنا بعد تقدير فضربوه فحيي {ويريكم آياته} دلائله على أنه قادر على كل شيء. فدلالة هذه القصة على وجود الصانع القادر على كل المقدورات العالم بكل المعلومات المختار في الإيجاد والإعدام آية، ودلالتها على صدق موسى عليه السلام آية، ودلالتها على براءة ساحة من سوى القاتل آية، ودلالتها على حشر الأموات آية، فهي وإن كانت واحدة إلا أنها في الحقيقة آيات عدة. ويمكن أن يراد بالآيات غير هذه أي مثل هذه الإراءة يريكم سائر الإراآت، كما أن مثل هذا الإحياء يحيي سائر الأموات. وفي قوله: {كذلك} دون أن يقال كهذا تعظيم للمشار إليه بتبعيده كما قلنا في {ذلك الكتاب} {لعلكم تعقلون} تعملون على قضية عقولكم، فإن من قدر على إحياء نفس واحدة قدر على إحياء الأنفس كلها إذ لا أثر للمخصصات في ذلك. فإن قيل: ما الفائدة في ضرب المقتول ببعض البقرة مع أنه قادر على إحيائه ابتداء؟ قلنا: الفائدة فيه كون الحجة آكد وعن الحيلة أبعد، فقد كان يجوز لملحد أن يتوهم أن موسى عليه السلام إنما أحياه بضرب من السحر، وليعلم بما أمر من مس الميت بالميت وحصول الحياة عقيبه، أن المؤثر هو المسبب لا الأسباب، ولما في ذبح البقرة من القربان وأداء التكليف واكتساب الثواب والإشعار بحسن تقديم القربة على طلب الحوائج، وما في التشديد عليهم لأجل تشديدهم من اللطف لهم وللآخرين في ترك التشديد والمسارعة إلى امتثال أوامر الله على الفور ونفع اليتيم بالتجارة الرابحة، والدلالة على بركة البر بالأبوين والإشفاق على الأولاد، وتجهيل المستهزئ بما لا يعلم تأويله من كلام الحكيم، وبيان أن من حق المتقرب به إلى الرب أن يكون من أحسن ما يتقرب به، فتيّ السن حسن اللون بريئًا من العيوب ثمينًا نفيسًا «أسمنوا ضحاياكم فإنها على الصراط مطاياكم» فإن قيل: هلا قدم ذكر القتيل على الأمر بذبح البقرة كما هو حق القصة؟ قلنا: لأنها كانت تكون حينئذ قصة واحدة ويذهب الغرض في ثنية التقريع بالاستهزاء وترك المبادرة بالامتثال أولًا، وبقتل النفس المحرمة وما تبعه من الآية ثانيًا، على أنها دلت على اتحاد القصتين برجوع الضمير في {ببعضها} إلى البقرة وهي مذكورة في الأولى.قوله: {ثم قست قلوبكم} الآية. خطاب لأولئك اليهود الذين كانوا في زمن موسى، أو للذين هم في زمن محمد صلى الله عليه وسلم من بعد ذلك الإحياء، أو من بعد ذلك الذي عددنا من جميع الآيات الباهرات والمعجزات الظاهرات. ومعنى {ثم} استبعاد القسوة من بعدما يوجب اللين والرقة. وصفة القلوب بالقسوة والغلظ مثل لنبوّها عن الاعتبار والاتعاظ فهي كالحجارة مثلها في القسوة، أو هي أشد قسوة من الحجارة. فمن عرفها شبهها بالحجارة أو قال هي أقسى من الحجارة، ويجوز أن يقدر مضاف أي هي كالحجارة أو مثل أشد قسوة. فمن عرفها شبهها بالحجارة أو بجوهر أقسى من الحجارة كالحديد مثلًا. وإنما قيل: أشد قسوة مع إمكان بناء أفعل التفضيل من فعل القسوة، لكونه أدل على فرط القسوة، أو لأنه لم يقصد معنى الأقسى ولكن قصد وصف القسوة بالشدة كأنه قيل: اشتدت قسوة الحجارة وقلوبهم أشد قسوة منها، وحذف هذا الراجع لعدم الالتباس نحو: زيد كريم وعمر أكرم. وكلمة {أو} هاهنا ليست للشك، فعلام الغيوب لا يشك في شيء، وإنما هي للتخيير بأيهما شئت شبهت فكنت صدوقًا، ولو جمعت بينهما جاز. ثم أخذ في بيان فضل قلوبهم على الحجارة في شدة القسوة فقال: {وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار} أي إن منها للذي فيه خروق واسعة يتدفق منها الماء الغزير، وإن منها للذي ينشق انشقاقًا طولًا أو عرضًا فينبع منه الماء وذلك بحسب كثرة المادة وقلتها، فإن الأبخرة تجمع في باطن الأرض.ثم إن كان ظاهر الأرض رخوًا نفشت وانفصلت، وإن كان صلبًا حجريًا اجتمعت وصارت مياهًا، ولا يزال يتواتر مددها إلى أن تنشق الأرض من مزاحمتها وتسيل أنهارًا أو عيونًا. وأما قلوب هؤلاء فلا تنشرح للحق ولا تتأثر من الوعظ والنصح بعد مشاهدة الآيات ومعاينة الدلائل. ويشقق أصله يتشقق فأدغم التاء في الشين كقولهم يذكر في يتذكر {لما يهبط} للذي يتردى من أعلى الجبل وذلك من خشية الله، إما لأنه تعالى خلق فيه الحياة والعقل والإدراك كما يروى من تسبيح الحصى في كف النبي صلى الله عليه وسلم، وإما لأن الخشية مجاز عن انقيادها لأمر الله وأنها لا تمتنع عما يريد بها من الإهباط والانفصال عن كلها، وقلوب هؤلاء لا تنقاد ولا تأتمر، وقيل: أن يتزلزل من أجل أن تحصل خشية الله في قلوب عباده فيفزعون إليه بالتضرع والدعاء {وما الله بغافل عما تعملون} وعيد، والمعنى أنه بالمرصاد لهؤلاء القاسية قلوبهم وحافظ لأعمالهم فيجازيهم في الدنيا والآخرة {فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدًا} [مريم: 84] ووصفه تعالى بأنه ليس بغافل لا يوهم جواز الغفلة عليه لأن نفي الصفة عن الشيء لا يستلزم ثبوت صحتها مثل {لا تأخذه سنة ولا نوم} [البقرة: 255]. اهـ.
|